
مروان مسلم
عندما كنت صغيراً وذلك في نهايات السبعينيات؛ كنت أشاهد مسلسلاً وثائقياً أمريكياً، وكانت الحلقة بعنوان "ما بعد عام ألفين Beyond 2000"، عُرض فيها أن شخصاً دخل على السوبرماركت عن طريق جهاز الكمبيوتر الخاص به (وكان ذلك على شكل مقطع فيديو)، ثم أخذ عربة التسوق، وتجول بين أقسام السوبرماركت، وكان يمسك بالبضاعة التي يريدها ويقلبها يمنة ويسرة ويقرأ مكوناتها وتاريخ الانتهاء وكل التفاصيل التي عليها (طبعاً باستخدام الفأرة في جهازه)، وإذا أعجبته يضعها في السلة، وعند اكتمال تسوقه، يذهب إلى المحاسب (الكاشير) ويبدأ المحاسب بقراءة معلومات المنتج من جهازه، ثم يصدر فاتورة للعميل، ثم يقوم العميل بالدفع عن طريق الكرت البنكي الخاص به، ويضع عنوانه السكني، ليقوم السوبرماركت بتوصيل البضاعة التي طلبها إلى منزله، ثم يقوم البرنامج بكتابة جملة (بحلول عام 2000؛ ستتمكنون من عمل ذلك حقيقة)، طبعاً أنا والأهل جلسنا نضحك ونستهزئ بهذا الخيال العلمي.
بعد عدة سنوات، وبعد زواجي، كنا نشاهد أنا وزوجتي والأطفال المسلسل الكرتوني الشهير (توم وجيري Tom & Jerry)، وجاء في حلقة من الحلقات (المكنسة الكهربائية الروبوت)، التي تستشعر بأية أوساخ تقع على الأرض وتعمل آلياً وتقوم بالتنظيف بدون أي أوامر، فقالت زوجتي حينها (مازحة) ليت عندي مثل هذه المكنسة تريحني من أعباء الكنس والتنظيف، وأيضاً في برنامج كرتوني آخر مشهور (عدنان ولينا)، عندما أخذ جد لينا يمشي معهم وأدخلهم في القاعة الخيالية التي تعرض لهم الربيع وأولاد يلعبون والشجر والناس والحيوانات إلخ.
كنا فيما مضى نرى هذه الأشياء كأنها خيالات وأنهم يضحكون على عقولنا وأنه لا يمكن أن يحدث هذا أبداً، طبعاً كل ما ذكرت وأكثر قد حصل، من منا لا يتسوق الآن من الإنترنت، و كثير منا لديه المكنسة الروبوت التي تعمل تلقائياً (وقد اشتريت واحدة لزوجتي)، وعند زيارتي لمقر شركة مايكروسوفت في سياتل – أمريكا عام 2014م، قدموا لنا جولة في مركز الإبداع لديهم، وبمجرد وصولنا - مع المشرفة المسؤولة عن الجولة – لباب البيت تم التعرف عليها من خلال جوالها، ففُتح الباب تلقائياً ورحب النظام بها، ثم أدخلتنا إلى غرفة المعيشة، فقالت: منذ مدة لم أتصل بوالدتي، فأمرت النظام أن يتصل بها، فتحولت جدران الغرفة إلى شاشات وتكلمنا مع أمها التي تعيش في ولاية بعيدة عنها صوتاً وصورة، ثم قالت للنظام: منذ زمن لم أرى الثلج، فقام النظام بتحويل جدران الغرفة إلى منطقة ثلجية مشهورة وتحولت الغرفة إلى رباعية الأبعاد فشعرنا بالهواء البارد وتساقط للثلوج علينا، وغيره من المجالات التي لا يتسع هذا المقال لذكرها.
ذكر صديق لي أنه قبل سنتين ذهب إلى مطعم؛ فجلس على طاولة وهي عبارة عن شاشة كبيرة، فتح قائمة الطعام وطلب الطلبية، وخلال الانتظار كان يشاهد اليوتيوب أو يتصفح الإنترنت، وبعد مدة ليست طويلة، جاء الطلب مع روبوت على طاولة مثبته عليه، ثم دفع حسابه على الطاولة نفسها بتمرير ساعته الذكية التي خزن فيها رقم حسابه البنكي.
أصبح هذا الواقع الافتراضي هو أقرب من الواقع الحقيقي لنا، فأصبحنا نرى بعد الجوال الذكي، الساعة الذكية، التلفزيون الذكي، النظارة الذكية، الخاتم الذكي، البيوت الذكية، إنترنت الأشياء التي تكون على الأجهزة المنزلية، السوبرماركت الذكي، والمدن الذكية كذلك وأكثر بكثير من هذه القائمة، أصبح لا يمكن لنا إنجاز كثير من معاملاتنا اليومية بدون هذه التقنية، وأصبح العمل على إنشاء برامج وتطبيقات توائم هذه التقنية هو الشغل الشاغل لكثير من الشركات والأفراد ومطوري الخدمات، ولا تستطيع الآن أن تمنع نفسك أو أبناءك من مواكبة هذا السيل العارم من التقنية.
ربما تجد نفسك بعد فترة ليست ببعيدة لا تحتاج أن تذهب لفعل شيء مما كنا نفعله سابقاً، فمثلاً معاملاتك الرسمية أغلبها يمكنك فعلها من جوالك أو كمبيوترك، أغلب مشترياتك تستطيع فعلها بنفس الطريق، بل يمكن لأجهزتك المنزلية أن تفعل هذا نيابة عنك باستخدام إنترنت الأشياء، حيث يمكن برمجة الثلاجة أن ترسل لك إشعار بأن المنتج المعين في الثلاجة قارب على الانتهاء؛ وتطلب من المتجر الإلكتروني ليقوم المتجر بتوصيله وخصم المبلغ من البطاقة، طورت شركة سامسونج ثلاجة تم تركيب كاميرا ثلاثية الأبعاد بداخلها، بابها عبارة عن شاشة كبيرة، بمجرد وضعك أي شيء داخل الثلاجة فإنه يتم التعرف عليها من الكاميرا، ثم يظهر لك على الشاشة أنك وضعت مثلاً عدد أربع حبات طماطم وزنها 450جرام بتاريخ كذا، وحبة بروكلي وزنها 230جرام، وتظهر لك صورة المنتج، ثم وبعد فترة تظهر لك الشاشة أن المنتج يبدأ يتلف، أيضاً تعرض عليك مقترحات لعدة طبخات يمكنك فعلها من المواد الموجودة فيها.
حتى قيادة السيارة قد تصبح من الماضي، بعد أن انتشرت سيارات كهربائية مثل تسلا وغيرها ممن يقودون عنك، يمكن للبيت الذكي أن يعمل كل ما تريد بمجرد استيقاظك من النوم، يفحص مؤشراتك الحيوية من حرارة وضغط وغيره، ثم يعد لك قهوتك المفضلة ويعرض عليك مواعيدك، ويقدم لك قائمة باقتراحات لوجبة الغداء بناءً على ما يوجد لديك في الثلاجة أو الرف الإليكتروني، وينبهك لبعض الأشياء التي تحتاج للصيانة في المنزل وغيره من الأفكار، وفي العمل يمكنك أن تتواصل مع زملائك (أحدهم في مدينة أخرى والآخر يعمل من البيت) أن تجمعوا قطع الطرف الصناعي لمريض بترت يده، والتي تم توزيعها بينكم كلً لديه جزء خاص به، لتقوم بطباعتها بالطابعة ثلاثية الأبعاد.
حضرت قبل ستة أشهر دورة عن المدن الذكية، الدورة تتطرق لكل ما يتعلق بالمدن الذكية، سأذكر موضوع واحد منها وهو إدارة النفايات، وُضِعت حلولًا للإدارة الذكية للنفايات تساعد على جمع النفايات بغية الحد من التكاليف التشغيلية بنسبة تصل إلى 80٪، والوصول إلى بيئة أكثر اخضرارًا ومدن نظيفة، يشتمل هذا النظام على: (صندوق ضغط نفايات مزود بالطاقة الشمسية، حساس لمستوى التعبئة مزود بالموجات فوق الصوتية، منصة مراقبة وتحليل البيانات في الزمن الحقيقي، إلخ)، وتقلل هذه الحلول الذكية من تكرار جمع النفايات إلى أدنى حدٍّ ممكن، ومن استهلاك الوقود، ومن اليد العاملة، ومن تكاليف الصيانة، إضافة الى عدة نقاط ذات أهمية؛ منها: (تحسين النظافة، خفض ثاني أكسيد الكربون، استعمال ضاغط للنفايات مزود بالطاقة الشمسية، التواصل لاسلكيًّا مع منصة تحليل البيانات، تحقيق إيرادات إضافية عن طريق الإعلانات) وغيره الكثير.
أعجبني كاريكاتور انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي مكون من قسمين، القسم الأول: في الأيام السابقة أم تسحب ابنها وهو يلعب في الخارج ليعود للبيت، والقسم الثاني: في أيامنا هذه وفيه تقوم الأم بسحب ابنها وهو يلعب في البيت على الأجهزة الإليكترونية ليلعب مع أصحابه خارجاً، وللأسف هذا الكاريكاتور يحاكي أيامنا، حيث أصبح كثير منا يتمنى أن يخرج ابنه للعب خارجاً مع أصحابه ويترك الأجهزة.
ويراودني كثيراً سؤال، إلى أين سيصل بنا الحال؟ وهل فعلاً ستتحكم التقنية بنا، هل سيُستغنى عن وظائف ويحل مكانها التقنية؟ ما كان سابقاً خيال أصبح واقعاً وليس هذا فقط بل واقعاً لا يمكن الاستغناء عنه.
بعد انتشار المصطلح الجديد - الذكاء الاصطناعي – وما يملك من إمكانيات هائلة وسريعة، راودني هذا السؤال بكثرة، هل فعلاً يمكن الاستغناء عن بعض المهن واستبدالها بالروبوت؟ عندما دخلت ابنتي الجامعة وكانت ترغب بدراسة تخصص طبي، نصحها كثيرون بعدم اختيار بعض التخصصات، حيث يوجد الآن بعض العمليات يقوم بها الروبوت، وأنه لن يكون لهذا التخصص وجود في المستقبل القريب، وهذا مقلق بعض الشيء للطلبة في اختيار تخصصهم.
وهنا أقول إن العامل البشري بعقله وإمكاناته التي خلقه الله عليها لا يمكن إحلاله بروبوت، فهو الذي صنع هذا الروبوت وهو الذي برمجه، يجب أن يستفيد الإنسان من الروبوت لا أن يُحله محله، فهل استغنينا عن المحاسب بعد اكتشاف الإكسل؟ وهل استغنينا عن العامل في مصنع السيارات بعد اختراع الروبوت في مصنعه، لم يتم ذلك.
علينا أن نتماشى مع واقعنا الجديد بحسناته وسيئاته، بميزاته وعيوبه، قد يكون جيلي يختلف عن جيل أولادي، لأني عايشت التقنية القديمة البسيطة، فحصولي أيامها على الووكمان كان قمة التطور، ومشغل الفيديو كذلك، وكنت أنا الريموت كنترول للتلفزيون عندما كنت أقوم بتغير القناة (لم يكن لدينا سوى قناتين)، إلى ما وصلت إليه من مواكبة التقنية الحديثة، ومع ذلك فإني كلي يقين أن ما أعلمه، فقد سبقني به أولادي وتجاوزوني، بل أصبحت أستعين بهم في كثير من الأحيان، لأنهم نشأوا مع هذه التقنية.