
بقلم : هيا العقيل
في كل مجتمع ما يميّزه عن غيره من المجتمعات، سواءا أكان ذلك في العادات و التقاليد، أو في المأكل و الملبس، في الأدب و الفن، بما هو مقبول و ما هو غير مقبول، و في الكثير من الأمور الأخرى، و التي منها تلك التعبيرات البسيطة التي تحمل بين طيّاتها معانٍ كبيرة تعكس من خلالها واقع المجتمع المُعاش من قِبل أفراده، هذه
التعبيرات القليلة الكلمات الكبيرة المعاني التي تُستخدم فيها لغة بلهجة متحدّثيها تسمّى الأمثال الشعبية، ذلك أنها من الشعب و للشعب، من هذه الأمثال ما يوزن بالألماس لجمالها و عمق معانيها،
و منها ما يستحق الاندثار لأثره السلبي أكثر من الإيجابي على الفرد و المجتمع و قد قيل في تعريف المثل أنه قول مأثور، تظهر بلاغته في إيجاز لفظه وإصابة معناه، قيل في مناسبة معينـة، وأخذ ليقال في مثل تلك المناسبة، فهو قصة حياة ترويها الأجيال، وحكاية حكمة الأجداد الصالحة لكل زمان ومكان مع اختلاف اللهجات، و هو نتاج الثقافة الشعبية، ويبقي ابنًا للبيئة واللغة والحدث الذي نتج منه.
وقد حرص العرب كغيرهم من الشعوب إن لم يكن أكثر على جمع هذه الأمثال و توريثها جيلا بعد جيل. و من أمثالهم التي تقطر جمالا و تثقُل ميزانا مَثَل منتشر في بلاد الشام يقول (المربّى غالي)، مَثَل تستشعر جماله رغما عن أنفك مع كل موقف يعكس أخلاق راقية و ردود فعل مَلَكية من صاحبه
كان كثيرا ما يتردّد على آذاننا، لكن مع صغر أعمارنا لم نكن لنفهم العبارة بقدر حفظنا لها كمثل من الأمثال التي يرددها المجتمع من حولنا، فإذا ما صادف أحدهم شخصا عديم الأخلاق أو قليل الأدب نجدهم يقولون ( المربّى غالي)، حتى حُفرت في أذهاننا و وُضعت في رف الأمثال مع مثيلاتها ممن سبقوها، لكن الأيام كانت كفيلة بأن تجعل هذا المثل يتربّع على عرش جميع الأمثال، أولا لصحته التي لا يشوبها خطأ، ثانيا لندرة و شحّ من يمثّلهم هذه الأيام
المربّى غالي.. يعني أنّ عمره مضافا إليه عمر من كان مسؤولا عنه في التربية و الصبر و التوجيه و المتابعة، فهو يختزل فيه عمر شخصين إن لم يكن أكثر في بعض الأحيان
المربّى غالي.. يعني أنه قد تلقى التربية و التوجيه و ليس فقط الرعاية و التدجين
يعني أنه قد بُذلت الأوقات في سبيل إشباعه عاطفيا و فكريا و اجتماعيا .. و لم يُلقى لمن هم ليسوا أهلا للتربية الذين لا يضيفون لعمره إلا أيام خاوية بلا محتوى، و إلى معدته لقيمات تخرج كما يخرج طعام البهائم منها
يعني أنه قد نمى و نضج عقليا و عاطفيا، و ليس فقط جسديا و عمريّا
يعني أن الأخلاق الحميدة هي جزء لا يتجزأ منه تماما كما هي عينه و يده
المربّى غالي.. يعني أنه قد كان الهدف الرئيسي يوما ما لشخص ما في هذه الحياة، يهتم به أيما اهتمام ، سواءا كان هذا الشخص أمه أو أبيه أو الاثنين معا، أو شخص بذل نفسه لبناء الإنسان سواءا أكان معلم أو موجّه أو قريب
يعني أنه لا يتصرف إلا و قد عاد لميزان واضح يقيّم فيه أفعاله و تصرفاته و يصنّفها صائبة كانت أم خاطئة، و لم يكن ميزانه المصالح و الأهواء
المربى غالي .. جملة لن يفهمها إلا من عاشر بشرا مختلفين، في مواقف مختلفة، عندها سيعرف من المواقف ما معنى أن يكون أحدهم غاليا في ميزان التربية .. في ميزان الأدب و الأخلاق، و من هو رخيصا فيها لا يسوى شيء
المربى غالي.. هو الذي يُثقل ميزان أمه و أبيه يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، عبر دعوات تصلهم أحياء كانوا أم أموات لكل من يرى تربيتهم تمشي على الأرض عبر شخص ربّوه و أعطوه من وقتهم و جهدهم و مالهم و نهارهم و ليلهم، من أجسادهم و أعمارهم كي يروه في مكان أفضل في هذا العالم، و ليأخذ هو بدوره العالم لمكان أفضل
المربى غالي..
هو ذاك الذي ربّته الكتب و سعى باستمرار للارتقاء بذاته عبر تربية نفسه التي تقطنه و تهذيبها بنفسه، حين أدرك أنه لم يتلقّى التربية الحسنة في بيته و من أهله و بيئته و مجتمعه. فقرر أن يعيد تربية نفسه بنفسه دون التعلّل بالظروف و البيئة من حوله، و استلّ التحفيز من داخل نفسه ليحارب به أخلاق سيئة و عادات بالية قد ترسّخت فيه في أغلب الأحيان دون وعي منه
المربّى غالي.. هو ذاك الذي علّمته الأيام أنك كي تكون غاليا في عين نفسك لا بدّ و أن تكون مختلفا عن أولئك الكُثر هنا و هناك، و أن لا يغرّك ضجيجهم الذي يصدرونه بالتوافه و اللاأخلاق ، فكل فارغ يحدث ضجيجا و كل ممتلئ فأفعاله هي من تتكلم نيابة عنه.. و بصمت، و أنك كي تكون مميزا لا بدّ و أن تكون قائدا بدايةً لذاتك قبل أي أحد، و أن تكسب تأييدها لك حتى تمشي هي خلفك بكل ثقة متيقّنة أنك لن تأخذ بيدها سوى للأفضل
المربىّ هو إنسان عزيز في عين نفسه قبل أن يكون عزيز في أعين الناس، محترم في ميزانه قبل ميزانهم
و هذا لا يعني أن الإنسان الذي تربّى تربية حسنة راقية هو إنسان سهل ليّن مع الجميع كما يروّج له ناقصو الأدب ، بل هو إنسان بمعايير عالية، يبتعد عنه أولئك الذين هم أدنى منه أخلاقا، ذلك أن رقابهم تتعب و هي تراقبه من أسفل لأنه متصدّرا أعلى القمة، فلا تتمنى هي الصعود إليه للتشبّه به، بل يتمنّون لو يسقط هو و يهوي إليهم فيطبطبون عليه و يضمّوه لسربهم الذي لا مكان فيه للأخلاق..
فكما قال مارتن لوثر كينچ (بعض الأشخاص سينبذونك لأن نورك أشد سطوعا مما يتحملون.. هكذا هي الدنيا .. فلتواصل إشعاعك )
أن تكون إنسان مهذب قوي عزيز النفس متواضع يعني أن تحترم الجميع لأنك محترم، تعرف قدر نفسك فلا تجالس من لا يعطيك قدرك أو يعطيك بقايا وقته، تردّ الإهانة إن أصابتك بأسلوب يحفظ قيمتك في عين نفسك قبل أعين الناس، قوي في الدفاع عن نفسك و عن غيرك متى سنحت لك الفرصة، لأنك كي تكون مهذبا و غاليا يعني أن تكون منتصرا و شجاعا لا مستسلما و جبانا، فالمسلم القوي أحب إلى الله من المسلم الضعيف
و في المجتمع فإن الإنسان القوي ذو الأخلاق العالية أحب لأفراده من الضعيف ذو الأخلاق الراقية، ذلك أن النفس جُبلت على تقليد الأقوى وعلى تقليد المنتصر ، و مع انتشار الأقوى عديم الأخلاق بدأ المجتمع بالانحدار للأسفل دون وعي منه، فلننتشله بتربية أنفسنا و الجيل القادم على المبادئ و القيم علّنا ننجو و تنجو الأجيال التي تلينا، تلك التي سترث أخلاقنا قبل أموالنا..
و علينا أن لا ننسى أنه ما دامت الروح حبيسة الجسد فإن هناك دوما فرصة أخرى، فرصة لتهذيب النفس و تهذيب من نحن مسؤولون عنهم والبدء من جديد ..
و لنتذكر دوما أن الأمم بلا أخلاق تندثر مهما طال أمدها و مهما بلغت بالعلم و التقدم مبلغا، و لنا قي التاريخ عبرة..
فكما قال الشاعر أحمد شوقي :
و إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فلنورّث الأخلاق لا الأموال .. فهي من ستخلّدنا هنا و هناك
و السلام..